فصل: الرَّابِعُ: أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْفِعْلِ لِشَيْئَيْنِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَحَدِهِمَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الثَّالِثُ: مِنْ هَذَا قِسْمٌ يُسَمَّى الضَّمِيرُ وَالتَّمْثِيلُ:

وَأَعْنِي بِالضَّمِيرِ أَنْ يُضْمِرَ من القول المجاور لِبَيَانِ أَحَدِ جُزْأَيْهِ كَقَوْلِ الْفَقِيهِ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ فَهُوَ حَرَامٌ فَإِنَّهُ أَضْمَرَ (وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ).
وَيَكُونُ فِي الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ، كَقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لفسدتا}.
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حولك}، وقد شهد الحسن وَالْعِيَانُ أَنَّهُمْ مَا انْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ وَهِيَ الْمُضْمَرَةُ وَانْتَفَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه فظ غليط القلب.
وقوله: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}، الْمَعْنَى لَوْ أَفْهَمْتُهُمْ لَمَا أَجْدَى فِيهِمُ التَّفْهِيمُ فَكَيْفَ وَقَدْ سُلِبُوا الْقُوَّةَ الْفَاهِمَةَ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ مَعَ انْتِفَاءِ الْفَهْمِ أَحَقُّ بِفَقْدِ الْقَبُولِ وَالْهِدَايَةِ.

.الرَّابِعُ: أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْفِعْلِ لِشَيْئَيْنِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَحَدِهِمَا:

فَيُضْمَرُ لِلْآخَرِ فِعْلٌ يُنَاسِبُهُ كقوله تعالى: {والذين تبوأوا الدار والإيمان} أَيْ وَاعْتَقَدُوا الْإِيمَانَ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَمِعُوا لَهَا تغيظا وزفيرا} أَيْ وَشَمُّوا لَهَا زَفِيرًا.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ}، وَالصَّلَوَاتُ لَا تُهْدَمُ فَالتَّقْدِيرُ: وَلَتُرِكَتْ صَلَوَاتٌ.
وَقَوْلِهِ: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} فَالْفَاكِهَةُ وَلَحْمُ الطَّيْرِ وَالْحُورُ الْعِينُ لَا تَطُوفُ وَإِنَّمَا يُطَافُ بِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ}، فَنَقَلَ ابْنُ فَارِسٍ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى (مَعَ) أَيْ شُرَكَائِكُمْ كَمَا يُقَالُ: لَوْ تُرِكَتِ النَّاقَةُ وَفَصِيلُهَا لَرَضَعَهَا أَيْ مَعَ فَصِيلِهَا.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: أَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ، اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ}.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ لِلثَّانِي لِيَصِحَّ الْعِطْفُ هُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ لِتَعَذُّرِ الْعَطْفِ. وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيُّ وَالْيَزِيدِيُّ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ وَتَضْمِينِ الْعَامِلِ مَعْنًى يَنْتَظِمُ الْمَعْطُوفَ وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ جَمِيعًا، فَيُقَدَّرُ آثَرُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّهُ أَيُّهُمَا أَوْلَى تَرْجِيحُ الْإِضْمَارِ أَوِ التَّضْمِينِ؟.
وَاخْتَارَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ تَفْصِيلًا حَسَنًا وَهُوَ: إِنْ كَانَ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى الِاسْمِ الَّذِي يَلِيهِ حَقِيقَةً كَانَ الثَّانِي مَحْمُولًا عَلَى الْإِضْمَارِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنَ التَّضْمِينِ نَحْوَ: (يَجْدَعُ اللَّهُ أَنْفَهُ وَعَيْنَيْهِ)، أَيْ وَيَفْقَأُ عَيْنَيْهِ فَنِسْبَةُ الْجَدْعِ إِلَى الْأَنْفِ حَقِيقَةٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ كَانَ الْعَامِلُ مُضَمَّنًا مَعْنَى مَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِضْمَارُ كَقَوْلِهِمْ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا

وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلَهُ تعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنة} قَالَ: لِأَنَّ فِعْلَ أَمْرِ الْمُخَاطَبِ لَا يَعْمَلُ فِي الظَّاهِرِ فَهُوَ عَلَى مَعْنَى: (اسْكُنْ أَنْتَ وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ) لِأَنَّ شَرْطَ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِأَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَا عَمِلَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهَذَا مُتَعَذِّرٌ هُنَا لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: (اسْكُنْ زَوْجَكَ).
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تضار والدة بولدها ولا مولود} وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ (مَوْلُودٌ) مَعْطُوفًا عَلَى (وَالِدَةٌ) لِأَجْلِ تَاءِ الْمُضَارَعَةِ أَوْ لِلْأَمْرِ فَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ تُقَدِّرَ مَرْفُوعًا بِمُقَدَّرٍ مِنْ جِنْسِ الْمَذْكُورِ أَيْ وَلَا يُضَارُّ مَوْلُودٌ لَهُ.
وقوله تعالى: {والطير}، قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ: (وَسَخَّرَنَا لَهُ الطَّيْرَ) عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {فَضْلًا} وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ مَعَهُ، ومن رفعه فقيل: على المضمر في (آتى)، وَجَازَ ذَلِكَ لِطُولِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: (مَعَهُ)، وَقِيلَ: بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ وَلِتُؤَوِّبَ مَعَهُ الطَّيْرُ.

.الْخَامِسُ: أَنْ يَقْتَضِيَ الْكَلَامُ شَيْئَيْنِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: {فمن ربكما يا موسى} وَلَمْ يَقُلْ: وَهَارُونَ لِأَنَّ مُوسَى الْمَقْصُودُ الْمُتَحَمِّلُ أَعْبَاءَ الرِّسَالَةِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَغَاصَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْكَلَامَ فَيَقُولُ: (وَهَارُونَ) وَلَكِنَّهُ نَكَلَ عَنْ خِطَابِ هَارُونَ تَوَقِّيًا لِفَصَاحَتِهِ وَحِدَّةِ جَوَابِهِ وَوَقْعِ خِطَابِهِ إِذِ الْفَصَاحَةُ تُنَكِّلُ الْخَصْمَ عَنِ الْخَصْمِ لِلْجَدَلِ وَتُنَكِّبُهُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ.

.السَّادِسُ: أَنْ يُذْكَرَ شَيْئَانِ ثُمَّ يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقْدِيرُهُ: إِذَا رَأَوْا تِجَارَةً انْفَضُّوا إِلَيْهَا أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهِ فَحُذِفَ أَحَدُهُمَا لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ.
وَيَبْقَى عَلَيْهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ أُوْثِرَ ذِكْرُ التِّجَارَةِ؟ وَهَلَّا أُوثِرَ اللهو؟.
وجوابه ما قال الرَّاغِبُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ التِّجَارَةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ انْفِضَاضِ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ أُعِيدَ الضَّمِيرُ إِلَيْهَا. وَلِأَنَّهُ قَدْ تُشْغِلُ التِّجَارَةُ عَنِ الْعِبَادَةِ مَا لَا يُشْغِلُهُ اللَّهْوُ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وأعاد الضمير عَلَى الْفِضَّةِ وَحْدَهَا، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ وَلِأَنَّ الفضة أكثر وجودا في أيديالناس وَالْحَاجَةُ إِلَيْهَا أَمَسُّ فَيَكُونُ كَنْزُهَا أَكْثَرَ وَقِيلَ أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَكْنُوزَ دَنَانِيرٌ وَدَرَاهِمٌ وَأَمْوَالٌ.
وَنَظِيرُهُ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقتتلوا}، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ جَمَاعَةٌ. وَقِيلَ: مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا ذَكَرَتْ شَيْئَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْمَعْنَى تَكْتَفِي بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَى أَحَدِهِمَا اسْتِغْنَاءً بِذِكْرِهِ عَنِ الْآخَرِ اتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ كَقَوْلِ حَسَّانِ:
إن شرح الشباب والشعر الأسـ ** ود ما لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا

وَلَمْ يَقُلْ: (يَعَاصَا).
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لم تروها} وقد جعل ابن لأنباري فِي كِتَابِ (الْهَاءَاتِ) ضَمِيرَ {لَمْ تَرَوْهَا} رَاجِعًا إِلَى الْجُنُودِ.
وَنُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَأْتِيَ هُنَا بِمَا سَبَقَ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يرضوه إن كانوا مؤمنين} فَقِيلَ (أَحَقُّ) خَبَرٌ عَنْهُمَا وَسَهُلَ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ بِعَدَمِ إِفْرَادِ (أَحَقُّ) وَأَنَّ إِرْضَاءَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِرْضَاءٌ لِرَسُولِهِ.
وَقِيلَ: (أَحَقُّ) خَبَرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: الْعَكْسُ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ الضَّمِيرُ لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ اسْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي ضَمِيرٍ وَاحِدٍ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ». قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ يَقْصِدُونَ ذِكْرَ الشَّيْءِ فَيَذْكُرُونَ قَبْلَهُ مَا هُوَ سَبَبٌ مِنْهُ ثُمَّ يَعْطِفُونَهُ عَلَيْهِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِهِ وَلَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ إِلَى الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ سَرَّنِي زَيْدٌ وَحُسْنُ حاله والمواد حسن ماله وَفَائِدَةُ هَذَا الدَّلَالَةُ عَلَى قُوَّةِ الِاخْتِصَاصِ بِذِكْرِ الْمَعْنَى وَرَسُولُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وَيَدُلَّ عليه ما تقدمه من قوله: {والذين يؤذون رسول الله}، وَلِهَذَا وَحَّدَ الضَّمِيرَ وَلَمْ يُثَنِّ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عنه}.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ}، فَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ وَقِيلَ أَعَادَهُ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ الْمَفْهُومَةُ مِنَ استعينوا.
وقيل: المعنى على التثنيةوحذف مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا}، وَهُوَ نَظِيرُ آيَةِ الْجُمُعَةِ كَمَا سَبَقَ.
وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَطِيفَتَانِ: وَهُمَا أَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا اقْتَضَى إِعَادَةَ الضَّمِيرِ عَلَى أَحَدِهِمَا أَعَادَهُ فِي آيَةِ الْجُمُعَةِ عَلَى التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ وَمُؤَنَّثَةٌ أَيْضًا لِأَنَّهَا أَجْذَبُ لِلْقُلُوبِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ مِنَ اللَّهْوِ لِأَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالتِّجَارَةِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِاللَّهْوِ أَوْ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ نَفْعًا مِنَ اللَّهْوِ أَوْ لِأَنَّهَا كانت أصلا واللهو تبعا لأنه ضرب بالطبل لِقُدُومِهِ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «أَقْبَلَتْ عِيرٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ»، وَأَعَادَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يكسب خطيئة أو إثما} عَلَى الْإِثْمِ رِعَايَةً لِمَرْتَبَةِ الْقُرْبِ وَالتَّذْكِيرِ فَتَدَبَّرْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أَيْ بذلك القول.

.السَّابِعُ: الْحَذْفُ الْمُقَابَلِيُّ:

وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الكلام متقابلان، فيحدف مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَابَلَةً لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}، الْأَصْلُ فَإِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنْتُمْ بُرَآءٌ مِنْهُ وَعَلَيْكُمْ إِجْرَامُكُمْ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ فَنِسْبَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِجْرَامِي) وَهُوَ الْأَوَّلُ إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَيْكُمْ إِجْرَامُكُمْ}- وَهُوَ الثَّالِثُ- كَنِسْبَةِ قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ بُرَآءٌ مِنْهُ}- وَهُوَ الثَّانِي- إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَيْكُمْ إِجْرَامُكُمْ}- وَهُوَ الثَّالِثُ-كَنِسْبَةِ قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ بُرَآءٌ مِنْهُ}- وَهُوَ الثَّانِي- إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وأنا بريء مما تجرمون}، وَهُوَ الرَّابِعُ، وَاكْتَفَى مِنْ كُلِّ مُتَنَاسِبَيْنِ بِأَحَدِهِمَا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأولون}، تَقْدِيرُهُ: إِنْ أُرْسِلَ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ فَأَتَوْا بِآيَةٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إن شاء أو يتوب عليهم}، تَقْدِيرُهُ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: (وَيُعَذِّبُ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ فَلَا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ فَلَا يُعَذِّبُهُمْ)، عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُطْلَقُ قَوْلِهِ: فَلَا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ مُقَيَّدًا بِمُدَّةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله}، فَتَقْدِيرُهُ: لَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ وَيَطَّهَّرْنَ فَإِذَا طَهُرْنَ وَتَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ وَهُوَ قَوْلٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ نِسْبَةُ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّالِثِ كَنِسْبَةِ الثَّانِي إِلَى الرَّابِعِ وَيُحْذَفُ مِنْ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَالَةَ السِّيَاقِ قَاطِعَةٌ بِهَذِهِ الْمَحْذُوفَاتِ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يُعْتَضَدُ الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ مِنْ وَطْءِ الْحَائِضِ إِلَّا بَعْدَ الطُّهْرِ وَالتَّطَهُّرِ جَمِيعًا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تخرج بيضاء من غير سوء}، تَقْدِيرُهُ: (أَدْخِلْ يَدَكَ تَدْخُلُ وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجُ)، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ عَرَضَ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ تَنَاسُبٌ بِالطِّبَاقِ فَلِذَلِكَ بَقِيَ الْقَانُونُ فِيهِ الَّذِي هُوَ نِسْبَةُ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّالِثِ وَنِسْبَةُ الثَّانِي إِلَى الرابع على حالة الْأَكْثَرِيَّةِ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ مَوْضِعِهِ وَلَمْ يُجْعَلْ بِالنِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَبَيْنَ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَهِيَ نِسْبَةُ النَّظِيرِ كَقَوْلِهِ:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ ** كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ

أَيْ هِزَّةٌ بَعْدَ انْتِفَاضَةٍ كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ ثُمَّ اهْتَزَّ. كَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ.
وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الصَّائِغِ، وَقَالَ: هَذَا التَّقْدِيرُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلَوْ يَكُونُ لَكَانَ خُلْفًا وَإِنَّمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَيْهِ أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِدْخَالِهَا خُرُوجَهَا، وَ: (يَخْرُجُ) مَجْزُومٌ عَلَى الْجَوَابِ فَاحْتَاجَ أَنْ تُقَدِّرَ جَوَابًا لَازِمًا وَشَرْطًا مَلْزُومًا حَذْفًا لِأَنَّهُمَا نَظِيرُ مَا ثَبَتَ لَكِنْ وَقَعَ فِي تَقْدِيرِ مَا لَا يُفِيدُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنْ أَدْخَلَهَا تَدْخُلُ لَكِنَّهُ قَدْ يُقَدِّرُهُ تَقْدِيرًا بَعِيدًا وَهُوَ أَدْخِلْهَا تَدْخُلُ كَمَا هِيَ وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجُ بَيْضَاءَ وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ ضَعِيفٌ فَيُقَالُ لَهُ: لَا يَلْزَمُ فِي الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ أَنْ يَكُونَ اللُّزُومُ بَيْنَهُمَا ضَرُورِيًّا بِالْفِعْلِ فإذا قيل: إن جاءني زيدا أَكْرَمْتُهُ فَهَذَا اللَّازِمُ بِالْوَضْعِ وَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ وَالْإِكْرَامُ لَازِمٌ لِلْمَجِيءِ بَلْ لِوَضْعِ الْمُتَكَلِّمِ فَالْمَوْضُوعُ هُنَا أَنَّ الْإِدْخَالَ سَبَبٌ فِي خُرُوجِهَا بَيْضَاءَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِخْرَاجِهَا أَنْ تَخْرُجَ بَيْضَاءَ لُزُومًا ضَرُورِيًّا إِلَّا بِضَرُورَةِ صِدْقِ الْوَعْدِ فَإِنْ قَالَ: لَمْ أُرِدْ هَذَا وَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ إِلَّا حَتَّى تُخْرَجَ قِيلَ هَذَا مِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا مَعْنَى لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وآخر سيئا}.
أصل الكلام: خلطوا عملا صالحا بسيء وآخر سيئا بصالح لأن الخلط يستدعي مخلوط وَمَخْلُوطًا بِهِ أَيْ تَارَةً أَطَاعُوا وَخَلَطُوا الطَّاعَةَ بِكَبِيرَةٍ وَتَارَةً عَصَوْا وَتَدَارَكُوا الْمَعْصِيَةَ بِالتَّوْبَةِ.
وَقَوْلِهِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} الْآيَةَ، فَإِنَّ مُقْتَضَى التَّقْسِيمِ اللَّفْظِيِّ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فَلَا خَوْفَ وَلَا حُزْنَ يَلْحَقُهُ وَهُوَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ وَمَنْ كَذَبَ يَلْحَقُهُ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ وَهُوَ صَاحِبُ النَّارِ فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مَا أَثْبَتَ نَظِيرَهُ فِي الْأُخْرَى.
قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بما لا يسمع إلا دعاء}، قَالَ سِيبَوَيْهِ (فِي بَابِ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ فِي اللَّفْظِ لَا فِي الْمَعْنَى): لَمْ يُشَبَّهُوا بِالنَّاعِقِ وَإِنَّمَا شُبِّهُوا بِالْمَنْعُوقِ بِهِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَلَكِنَّهُ جَاءَ عَلَى سِعَةِ الْكَلَامِ وَالْإِيجَازِ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْمَعْنَى. انْتَهَى.
وَالَّذِي أَحْوَجَهُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّهُ لَمَّا شَبَّهَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،- وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ النَّاعِقَ بِمَعْنَى الدَّاعِي وَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ لِجَوَازِ أَلَّا يُرَادَ بِهِ الدَّاعِي بَلِ النَّاعِقُ مِنَ الْحَيَوَانِ- شَبَّهَهُمْ في تألهم وَتَأَتِّيهِمْ بِمَا يَنْعِقُ مِنَ الْغَنَمِ بِصَاحِبِهِ مِنْ أنهم يدعون مالا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَفْهَمُ مَا يُرِيدُهُ فَيَكُونُ ثَمَّ حَذْفٌ.
وَقِيلَ: لَيْسَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ إِلَّا الِاكْتِفَاءَ مِنَ الْأَوَّلِ بِالثَّالِثِ لِنِسْبَةٍ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِالَّذِي يَنْعِقُ-وَهُوَ الثَّالِثُ الْمُشَبَّهُ بِهِ- عَنِ الْمُشَبَّهِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلُكَ وَهُوَ الْأَوَّلُ وَأَقْرَبُ إِلَى هَذَا التَّشْبِيهُ الْمُرَكَّبُ وَالْمُقَابَلَةُ وَهُوَ الَّذِي غَلِطَ مَنْ وَضَعَهُ فِي هَذَا النَّوْعِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نَوْعِ الِاكْتِفَاءِ لِلِارْتِبَاطِ الْعَطْفِيِّ عَلَى مَا سَلَفَ.
وَقَدْ قَالَ الصَّفَّارُ: هَذَا الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ- مِنْ أَنَّهُ حَذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ وَمِنَ الثَّانِي الْمَعْطُوفَ- ضَعِيفٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِأَنَّ فيه حدفا كَثِيرًا مَعَ إِبْقَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَهُوَ الْوَاوُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا قَبْلَهَا مُسْتَأْنَفٌ وَالْأَصْلُ مَثَلُكَ وَمَثَلُهُمْ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الْأَصْلَ وَمَثَلُكُ وَمَثَلُهُمْ ثُمَّ حَذَفَ (مَثَلُكَ) وَالْوَاوَ الَّتِي عَطَفَتْ مَا بَعْدَهَا وَبَقِيَتِ الْوَاوُ الْأَوْلَى وَيُزْعَمُ أَنَّ الْكَلَامَ رُبِطَ مَعَ مَا قَبْلَهُ بِالْوَاوِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ارْتِبَاطٌ وَفِيهِ مَا تَرَى.
وَقَالَ ابْنُ الْحَجَّاجِ: عِنْدِي أَنَّهُ لَا حَذْفَ فِي الآية والقصد تشبيه الكفار في عبادتهم لاصنام بِالَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ فَهُوَ تَمْثِيلُ دَاعٍ بِدَاعٍ مُحَقَّقٌ لَا حَذْفَ فِيهِ وَالْكُفَّارُ عَلَى هَذَا دَاعُونَ وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ. مَدْعُوُّونَ.
وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مستقيم} فَإِنَّ فِيهِ جُمْلَتَيْنِ حُذِفَ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا اكْتِفَاءً بِنِصْفِ الْأُخْرَى وَأَصْلُ الْكَلَامِ: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى مِمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَهْدَى مِمَّنْ يَمْشِي مُكِبًّا!.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ أَصْلَهُ هَكَذَا لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا بُدَّ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ.
وَهَاهُنَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَمَّنْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هَلْ هَذَا أَهْدَى مِنْ ذَلِكَ أَمْ ذَاكَ أَهْدَى مِنْ هَذَا؟ فَلَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ إِلَّا نِصْفُ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ وَنِصْفُ الْأُخْرَى وَالَّذِي حُذِفَ مِنْ هَذِهِ مَذْكُورٌ فِي تِلْكَ وَالَّذِي حُذِفَ مِنْ تِلْكَ مَذْكُورٌ فِي هَذِهِ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مَعَ الْإِيجَازِ وَالْفَصَاحَةِ ثُمَّ تُرِكَ أَمْرٌ آخَرُ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ وَهُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ لِهَذَيْنِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ وَأَيُّهُمَا هُوَ الْأَهْدَى لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْآيَةِ أَصْلًا اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يَقُولُ الَّذِي يَمْشِي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَهْدَى مِمَّنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يخلق} وَقَوْلِهِ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يعلمون}.